بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد : فقد سئلت عن حكم التنباك الذي أُولع بشربه كثير من الجهال
والسفهاء مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه ، نحن ، ومشايخنا، ومشايخ
مشايخنا، وكافة المحققين من أئمة الدعوة النجدية وسائر المحققين سواهم
من العلماء في عامة الأمصار، من لدن وجوده بعد الألف بعشرة أعوام أو نحوها
حتى يومنا هذا، استنادا على الأصول الشرعية والقواعد المرعية؟. وكنت رأيت
عدم إجابة السائل لذلك ، ولكن نظرا إلى أن للسائل حقا، وإلى فشو تعاطي
هذا الخبيث بما لا يخطر على البال آثرت الجواب على ذلك .
فأقول : لا ريب في خبث الدخان ونتنه ، وإسكاره أحيانا وتفتيره .
وتحريمه بالنقل الصحيح ، والعقل الصريح ، وكلام الأطباء المعتبرين .
أولا: أما النقل الصحيح فقول الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ وفي الصحيح عن ابن عمر
رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر خمر وكل خمر
حرام ولمسلم : وكل مسكر حرام وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن عائشة
مرفوعا : كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام وكل من
الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة دال على تحريمه، فإنه خبيث مسكر تارة،
ومفتر أخرى لا يماري في ذلك إلا مكابر للحس والواقع.
ولا ريب أيضا في إفادتها تحريم ما عداه من المسكرات والمفترات.
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : نهى
الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر قال الحافظ الزين العراقي :
( إسناده صحيح ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير ) .
وفيه من إضاعة المال واستهلاك المبالغ الطائلة المسببة لضلع الدين ،
الحامل على بيع كثير من ضروريات الحياة في هذا السبيل ما لا يسع أحدا
إنكاره. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله حرم
عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة
السؤال وإضاعة المال يوضحه ما سنذكره من كلام العلماء من أرباب المذاهب
الأربعة .
فممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية الشيخ محمد العيني ذكر في رسالته
تحريم التدخين من أربعة أوجه:
أحدها: كونه مضرا للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين ؛ وكل ما كان كذلك يحرم
استعماله اتفاقا.
ثانيها : كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم المنهي عن استعمالها شرعا
؛ لحديث أحمد عن أم سلمة : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر
ومفتر وهو مفتر باتفاق الأطباء وكلامهم حجة في ذلك وأمثاله باتفاق
الفقهاء سلفا وخلفا.
ثالثها: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه ، وعلى الخصوص
في مجامع الصلاة ونحوها ، بل وتؤذي الملائكة المكرمين .
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن جابر مرفوعا: من أكل ثوما أو بصلا
فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته ومعلوم أن رائحة التدخين ليست
أقل كراهية من رائحة الثوم والبصل . وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله
عنه: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس وفي الحديث عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال: من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله رواه
الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه بإسناد حسن .
رابعها: كونه سرفا ، إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر ، بل فيه الضرر
المحقق بإخبار أهل الخبرة. ومنهم أبو الحسن المصري الحنفي قال ما نصه: (
الآثار النقلية الصحيحة ، والدلائل العقلية الصريحة تعلن بتحريم الدخان ).
وكان حدوثه في حدود الألف ، وأول خروجه بأرض اليهود والنصارى والمجوس ،
وأتى به رجل يهودي يزعم أنه حكيم إلى أرض المغرب ودعا الناس إليه ، وأول
من جلبه إلى البر الرومي رجل اسمه الاتكلين من النصارى. وأول من أخرجه
ببلاد السودان المجوس ، ثم جلب إلى مصر والحجاز وسائر الأقطار.
ومن فقهاء الحنابلة: الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله
أرواحهم ، قال في أثناء جوابه على التنباك بعد ما سرد نصوص تحريم المسكر
وذكر كلام أهل العلم في تعريف الإسكار ما نصه: ( وبما ذكرنا من كلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك تحريم التتن الذي كثر في
هذا الزمان استعماله ، وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض
الأوقات ، خصوصا إذا أكثر منه أو أقام يوما أو يومين لا يشربه ثم شربه
فإنه يسكر ويزيل العقل ، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك ،
نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس .
فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا
تبين له كلام الله وكلام رسوله في مثله من المسائل ؛ وذلك لأن الشهادة بأنه
رسول الله تقتضي: طاعته فيما أمر ، والانتهاء عما عنه نهى وزجر ، وتصديقه
فيما أخبر).
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله عن التنباك بقوله: (الذي نرى فيه
التحريم لعلتين: أحدهما: حصول الإسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه
أو أكثر وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير.
وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر
ومفتر والعلة الثانية: أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده ، واحتج
العلماء بقوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه ، كالجعل لا يستخبث العذرة .
ومن فقهاء الشافعية الشيخ الشهير بالنجم الغزي الشافعي قال ما نصه: (
والتوتون الذي حدث وكان حدوثه بدمشق سنة خمس عشرة بعد الألف يدعي شاربه
أنه لا يسكر ، وإن سلم له فإنه مفتر وهو حرام ؛ لحديث أحمد بسنده عن أم
سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر قال: (
وليس من الكبائر تناوله المرة أو المرتين ، أي بل الإصرار عليه يكون
كبيرة كسائر الصغائر ).
وقد ذكر بعض العلماء : إن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بواحدة من خمسة
أشياء : إحداهما : الإصرار عليها. والثانية : التهاون بها ، وهو الاستخفاف
وعدم المبالاة بفعلها. والثالثة: الفرح والسرور بها. والرابعة: التفاخر
بها بين الناس . والخامسة : صدورها من عالم ، أو ممن يقتدى به.
وأجاب الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله : لا تجوز إمامة من
يشرب التنباك ، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر . اهـ.
وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي
الحنبلي . وشيخ المالكية: إبراهيم اللقاني . ومن علماء المغرب : أبو
الغيث القشاش المالكي . ومن علماء دمشق : النجم الغزي العامري الشافعي .
ومن علماء اليمن: إبراهيم بن جمعان ، وتلميذه أبو بكر الأهدل . ومن علماء
الحرمين : المحقق عبد الملك العصامي ، وتلميذه محمد بن علان شارح رياض
الصالحين ، والسيد عمر البصري . وفي الديار الرومية : الشيخ محمد
الخواجة ، وعيسى الشهادي الحنفي ، ومكي بن فروخ ، والسيد سعد البلخي
المدني ، ومحمد البرزنجي المدني الشافعي .
وقال: ( رأيت من يتعاطاه عند النزع يقولون له: قل: لا إله إلا الله ، فيقول:
هذا تتن حار ، كل هؤلاء من علماء الأمة وأكابر الأئمة أفتوا بتحريمه ونهوا
عنه وعن تعاطيه.
ثانيا: وأما العقل الصريح فلما عُلم بالتواتر والتجربة والمشاهدة مما
يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وجسمه وعقله.
وقد شوهد موت وغشي وأمراض عسرة ، كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي
ومرض القلب والموت بالسكتة القلبية وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف .
وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي أن تعاطيه حرام ، فإن العقل الصريح
كما يقضي ولا بد بتعاطي أسباب الصحة والحصول على المنافع ، كذلك يقضي
حتما بالامتناع من أسباب المضار والمهالك والمبالغة في مباعدتها ، لا
يرتاب في ذلك ذو لب البتة. ولا عبرة بمن استولت الشبهة والشهوة على أداة
عقله ، فاستعبدته ، وأولعته بالأوهام والخيالات حتى بقي أسيرا لهواه ،
مجانبا أسباب رشده وهداه.
ثالثا: وأما كلام الأطباء فإن الحكماء الأقدمين مجمعون على التحذير من ثلاثة
أشياء ، ومتفقون على ضررها:
أحدها: النتن وهو الروائح المستخبثة بجميع أجناسها وأنواعها.
الثاني: الغبار.
الثالث: الدخان ، وكتبهم طافحة بذلك.
وأما المتأخرون منهم الذين أدركوا هذا النبات الخبيث ، فنلخص ما ذكروه
من أضرار وما اشتمل عليه من الأجزاء والعناصر التي نشأت عنها أضراره
الفتاكة. وهذا ملخص ما ذكروه: قالوا: هو نبات حشيشي مخدر مر الطعم ،
وبعد التحقيق والتجربة ظهر أن التبغ بنوعيه: التوتون والتنباك من
الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على أشر النباتات السامة ، كالبلادونا
والبرش ، والبنج ، وهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر ، ومنه مادة
صمغية ومادة حريفة تسمى: نيكوتين. قالوا: وهي من أشد السموم فعلا.
وله استعمالات: أحدها: استعماله مضغا بالفم ، وهو أقبح استعمالاته وأشدها
ضررا ، وهو من المخدرات القوية ، فتسري مواده السامة في الأمعاء سريعا ،
وتحدث تأثيرا قويا في الأعصاب البدنية .
والثانية: استعماله استنشاقا مسحوقا مع أجزاء منبهة ، وهو مضر أيضا ؛
لاحتوائه على مواد سامة.
والثالث: استعماله تدخينا من طريق السيجارة ، وهي أعظم أدوات التدخين ؛
لأن الدخان يصل إلى الفم حارا ، ومن طريق النارجيلة والقصبة المعروفة
بالغليون. وقد أثبت الأطباء له مضار عظيمة ، وقالوا: إنها تكمن في الجسم
أولا ثم تظهر فيه تدريجيا ، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق
التنباك المحترقة يحتوي على كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين
فإذا دخل الفم والرئتين أثّر فيهما تأثيرا موضعيا وعموميا ؛ لأنه عند
دخوله الفم تؤثر المادة الحريفة السامة التي فيه في الغشاء المخاطي
فتهيجه تهييجا قويا وتسيل منه كمية زائدة من اللعاب وتغير تركيبه
الكيماوي بعض التغيير بحيث تقلل فعله في هضم الطعام ، وكذلك تفعل في
مفرز المعدة كما فعلت في مفرز الفم ، فيحصل حينئذ عسر الهضم ، وعند وصول
الدخان إلى الرئتين عن طريق الحنجرة تؤثر فيهما المادة الحريفة فتزيد
مفرزهما ، وتحدث فيهما التهابا قويا مزمنا ، فيتهيج السعال حينئذ لإخراج
ذلك المفرز الغزير الذي هو البلغم ، ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين
الصدرية وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها ، وما يجتمع على باطن
القصبة من آثار التدخين الكريهة الرائحة يجتمع مثله على القلب ، فيضغط
على فتحاته ، ويصد عنه الهواء ، فيحصل حينئذ عسر التنفس ، وتضعف المعدة
، ويقل هضم الطعام.
ويحصل عند المباشر له الذي لم يعتده ، دوار ، وغثيان ، وقيء وصداع ،
وارتخاء للعضلات وهي الأعصاب ، ثم سبات ، وهي كناية عن حالة التخدير الذي
هو من لوازم التبغ المتفق عليه وذلك لما يحويه من المادة السامة ، ومن
اعتاده حصل عنده من فساد الذوق وعسر الهضم وقلة القابلية للطعام ما لا
يخفى . والإكثار منه يفضي إلى الهلاك ، إما تدريجيا ، وإما في الحال ، كما
وقع لأخوين تراهنا على أيهما يدخن أكثر من الآخر فمات أحدهما قبل السيجارة
السابعة عشرة ومات الآخر قبل أن يتم الثامنة عشرة .
ومن مضاره: تخريب كريات الدم ، وتأثيره على القلب بتشويش انتظام ضرباته
، ومعارضته القوية لشهية الطعام ، وانحطاط القوة العصبية عامة ، ويظهر
هذا بالخدر والدوار الذي يحدث عقب استعماله لمن لم يألفه.
ويحكي الأستاذ : مصطفى الحمامي عن نفسه مرة أنه قال : كنت أمشي يوما مع
أحد طلبة العلم فعرج على بائع دخان اشترى منه سيجارتين أشعل إحداهما
وأقسم علي يمينا غليظا أن آخذها منه وأستعملها قال : فتناولت السيجارة
أجذب في دخانها وأنفخه من فمي دون أن يتجاوز الفم للداخل ، رأى هو ذلك
فقال : ابتلع ما تجذبه فإن قسمي على هذا ، لم أمانع وفعلت ما قال نفسا
واحدا والله ما زدت عليه ، وإذ دارت الأرض حولي دورة تشبه دورة المغزل ،
فبادرت إلى الجلوس على الأرض ، وظننت بنفسي أني انتهيت ، وظننت بصاحبي
الظنون ، وبكل تعب وصلت إلى بيتي وأنا راكب وهو معي يحافظ علي ، وبعد
ذلك مكثت إلى آخر اليوم التالي تقريبا ، حتى أحسست بخفة ما كنت أجده ،
فحكيت هذا لكثير من الناس أستكشف ما كان يخبئ لي في السيجارة ، فأخبروني
أن الدخان يعمل هذا العمل في كل من لم يعتده ، فقلت : إذا كان نفسا
واحدا فعل بي كل هذا فماذا تفعله الأنفاس التي لا تُعد كل يوم يجتذبها
معتاد الدخان خصوصا المكثر منه ؟ اهـ.
ومنها : إحداث الجنون المعروف : بالتوتوني ، وهو أن من يتركه ممن اعتاد
استعماله يختل نظام سيره في أعماله وأشغاله حتى يدخنه ، فإذا دخنه سكن
حاله.
وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء : أن من العقل- فضلا عن
الشرع- وجوب اجتناب التدخين ؛ حفظا للصحة ، ودفعا لدواعي الضعف الجالب
للهلاك والدمار ، وخصوصا ضعيف البنية وكبير السن الذي ليست عنده قوة
لمكافحة الأمراض وأصحاب المزاج البلغمي .
ولذلك يتركه كثير من الناس ؛ خوفا من ضرره ، وكراهية لرائحته ، وقد
يعلقون طلاق نسائهم على العود إليه ، يريدون بذلك تركه نهائيا ، فإذا حمل
إليهم وقت الحاجة إليه لم يستطيعوا الإعراض عنه أبدا ، بل يقبلون عليه
بكلياتهم كل الإقبال ولو طلقت نساؤهم ، فله سلطان عظيم على عاشقيه وتأثير
على العقل ، وذلك أن شاربه يفزع إلى شربه إذا نزل به مكدر ، فيتسلى
ويذهل العقل بعض الذهول فيخف حزنه ، والله أعلم . وصلى الله على عبده ورسوله
محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
قال ذلك وأملاه الفقير إلى عفو مولاه : محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل
الشيخ 4/ 6/ 1383هـ